فصل: قال صاحب الميزان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب الميزان:

وهو بحث قرآني وتاريخي في فصول:
1- قصة ذي القرنين في القرآن: لم يعترض لاسمه ولا لتاريخ زمان ولادته وحياته ولا لنسبه وسائر مشخصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة اولى إلى المغرب حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة أو حامية ووجد عندها قوما، ورحلة ثانيه إلى المشرق حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، ورحله ثالثة حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض وعرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يجعل بين القوم وبين يأجوج ومأجوج سدا فأجابهم إلى بناء السد ووعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون وأبى أن يقبل خرجهم وإنما طلب منهم أن يعينوه بقوة وقد اشير منها في القصة إلى الرجال وزبر الحديد والمنافخ والقطر.
والخصوصيات والجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي أولا أن صاحب القصة كان يسمى قبل نزول قصته في القرآن بل حتى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصة من قوله: {يسألونك عن ذي القرنين} {قلنا يا ذا القرنين} {وقالوا يا ذا القرنين}.
وثانيا: أنه كان مؤمنا بالله واليوم الآخر ومتدينا بدين الحق كما يظهر من قوله: {هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء وكان وعد ربي حقا} وقوله: {أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا}.. إلخ. ويزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} يدل على تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي.
وثالثا: أنه كان ممن جمع الله له خير لدنيا ولاخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به مغرب الشمس ومطلعها فلم يقم له شئ وقد ذلت له الأسباب، وأما خير الاخرة فبسط العدل وإقامة الحق والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبث الخير ودفع الشر، وهذا كله مما يدل عليه قوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا} مضافا إلى ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية والروحانية.
ورابعا: أنه صادف قوما ظالمين بالمغرب فعذبهم.
وخامسا: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس ومطلعها فإنه بعد ما بلغ مطلع الشمس أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين.
ومن مشخصات ردمه مضافا إلى كونه واقعا في غير المغرب والمشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، وأنه ساوى بين صدفيهما وأنه استعمل في بنائه زبر الحديد والقطر، ولا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة.
2- ذكرى ذى القرنين والسد ويأجوج ومأجوج: في اخبار الماضين، لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي ولا يأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ولا سدا ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين وأنه من أسلافه التبابعة، وفيها ذكر سيره إلى المغرب والمشرق وسد يأجوج ومأجوج وسيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الاتية.
وورد ذكر مأجوج وجوج ومأجوج في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الإصحاح العاشر من سفر التكوين من التوراة.
وهذه مواليد بنى نوح: سام وحام ويافث. وولد لهم بنون بعد الطوفان بنو يافث جومر ومأجوج وماداي وباوان ونوبال وما شك ونبراس.
وفي كتاب حزقيال الإصحاح الثامن والثلاثون وكان إلى كلام الرب قائلا: يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك ونوبال، وتنبأ عليه وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك ياجوج رئيس روش وما شك ونوبال وأرجعك وأضع شكائم في فكيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلا وفرسانا.
(1) كتب العهدين مطبوعة بيروت 1870 ومنها سائر ما نقل في هذه الفصول.
(2) وكان بين اليهود أيام أسارتهم ببابل.
كلهم لا بسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم ممسكين السيوف.
فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومر وكل جيوشه وبيت نوجرمه من أقاصى الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك قال: لذلك تنبأ يابن آدم وقل لجوج: هكذا قال السيد الرب في ذلك اليوم عند سكنى شعب إسرائيل آمنين أفلا تعلم وتأتي من موضعك من أقاصى الشمال.. إلخ. وقال في الاصحاح التاسع والثلاثين ماضيا في الحديث السابق: وأنت يابن آدم تنبأ على جوج وقل: هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك ياجوج رئيس روش ما شك ونوبال وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال.
وآتي بك على جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى واسقط سهامك من يدك اليمنى فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك أبذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش الحفل، على وجه الحفل تسقط لاني تكلمت بقول السيد الرب، وارسل نارا على مأجوج وعلى الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب إلخ.
وفي رؤيا يوحنا في الاصحاح العشرين: ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو ابليس والشيطان، وقيده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما بعد حتى تتم الالف سنة وبعد ذلك لابد أن يحل زمانا يسيرا.
قال: ثم متى تمت الالف سنة لن يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا على عرض الأرض، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبى الكذاب وسيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الابدين.
ويستفاد منها أن مأجوج أو جوج ومأجوج أمة أو امم عظيمة كانت قاطنه في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ، وأنهم كانوا امما حربية معروفة بالمغازي والغارات.
ويقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الأمم المفسدة في الأرض، وأن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصين أو سد باب الابواب أو سد داريال أو غير هذه.
وقد تسلمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الاحداب والمرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لامة كبيره بدوية همجيه لم تزل تزداد عددا وتكثر سوادا فتكر على الأمم المجاورة لها كالصين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلى بلاد آسيا الوسطى والدنيا وبلغت إلى شمال أو ربه فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنه أو ربه الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة، ومنهم من رجع ثم عاد وعاد. وهذا أيضا مما يؤيد ما استقربناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الاسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه.
3- من هو ذو القرنين؟ وأين سده؟ للمؤرخين وأرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف انظارهم في تطبيق القصة:
1- ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين، وهو حائط طويل يحول بين الصين وبين منغوليا بناه شين هوانك تي أحد ملوك الصين لصد هجمات المغول عن الصين، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار وارتفاع خمسة عشر مترا، وقد بني بالاحجار شرع في بنائه سنه 264 ق م وقد تم بناؤه في عشر أو عشرين وعلى هذا فذو القرنين هو الملك المذكور.
ويدفعه أن الأوصاف والمشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين وسدة لا تنطبق على هذا الملك وحائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب الأقصى، والسد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين وقد استعمل فيه زبر الحديد والقطر وهو النحاس المذاب والحائط الكبير يمتد ثلاثه آلاف كيلو متر يمر في طريقه على السهول والجبال، وليس بين جبلين وهو مبنى بالحجارة لم يستعمل فيه حديد ولا قطر.
ب- نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور وقد كان يهجم في حوالى القرن السابع قبل الميلاد أقوام سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران وربما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا وسبيا ونهبا فبني ملك آشور السد لصدهم، وكأن المراد به سد باب الابواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنو شيروان من ملوك الفرس هذا.
ولكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه.
ج- قال في روح المعاني: وقيل: هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى، وفي، كتاب صور الاقاليم لابي زيد البلخى: أنه كان مؤيدا بالوحى وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة: إيرج وسلم وتور فأعطى إيرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانونا يحكم به، وسميت القوانين الثلاثة سياسة وهي معربة سي أيسا أي ثلاثه قوانين.
ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة، أو عظم شجاعته وقهره الملوك انتهى.
وفيه أن التاريخ لا يعترف بذلك.
د- وقيل: إن ذا القرنين هو الاسكندر المقدوني وهو المشهور في الألسن وسد الاسكندر كالمثل السائر بينهم وقد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الاسناد عن موسي بن جعفر عليهما السلام ورواية عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواية وهب بن منبه المرويتين في الدر المنثور.
وبه قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان، وقتادة على ما رواه في الدر المنثور، ووصفه الشيخ أبو على بن سينا عندما ذكره في كتاب الشفاء بذي القرنين، وأصر على ذلك الإمام الرازي في تفسيره الكبير.
قال فيه ما ملخصه: أن القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال، وذلك تمام المعمورة من الأرض، ومثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلا الاسكندر.
وذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم، وانتهى إلى البحر الاخضر ثم إلى مصر، وبنى الاسكندرية ثم دخل الشام وقصد بنى إسرائيل وورد بيت المقدس، وذبح في مذبحه.
ثم انعطف إلى أرمينية وباب الابواب، ودان له العراقيون والقبط والبربر، واستولى على إيران، وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة، ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق ومات في شهر زور أو رومية المدائن وحمل إلى اسكندرية ودفن بها، وعاش ثلاثا وثلاثين سنة، ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة.
فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة، وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الاسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الاسكندر. انتهى.
وفيه أولا: أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الاسكندر المقدوني غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا.
وثانيا: أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للاسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله واليوم الاخر وهو دين التوحيد وكان الاسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشترى، وذكر القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل ورفق والتاريخ يقص للاسكندر خلاف ذلك.
وثالثا: أنه لم يرد في شئ من تواريخهم أن الاسكندر المقدونى بنى سد يأجوج ومأجوج على ما يذكره القرآن. وقال في البداية والنهاية في خبر ذي القرنين: وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام ابن نوح.
فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس وساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم المقدوني اليونانى المصري باني أسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل.
وكان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطا أرضهم.
قال: وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا، وأما الثاني فكان مشركا، وقد كان وزيره فيلسوفا، وقد كان بين زمانيهما، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور انتهى.
وفيه تعريض بالامام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطأ أقل مما ارتكبه الإمام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين وثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وجهة الشمال وبنى السد وكان مؤمنا صالحا بل نبيا ووزيره الخضر ودخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الاسكندر أو غير ذلك.